بعد كتابه "طبائع الاستبداد" الذي كان ثورة على كل مظاهر الظلم والعنصرية، والقهر والاستعباد منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، كتب الرحالة عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله كتابه الثاني "أم القرى" ونشر في مجلة المنار التي كانت منبر الدعوة الإسلامية في ذلك الزمان.
أخذ الكواكبي يحلم في "أم القرى" بالوحدة الإسلامية بين الشعوب المسلمة، ويفكر في كل طريقة للنهوض بها من كبوتها، فاقترح أن يجتمع قادة الأقطار الإسلامية من كل أنحاء العالم في موسم الحج من كل عام بمكة المكرمة (أم القرى) باعتبارها قبلة المسلمين، والمركز الروحي الذي تتوجه إليه الأمة كل يوم خمس مرات؛ كي لا تغفل عن وحدتها التي هي سر قوتها وسبيل عزتها.
لم يقتصر حلم الكواكبي على وحدة العرب كما توهم القوميون العرب، واعتبروه رائدهم في فكرة القومية العربية التي منيت ـ فيما بعد ـ بالهزيمة وباءت بالخيبة والفشل؛ لأن الكواكبي قرر في كتابه أن العرب بغير إسلام غثاء لا قدر لهم ولا اعتبار، إنما كان الرجل يحلم بالوحدة الإسلامية الجامعة والنهضة الإصلاحية الشاملة؛ فقد فهم الإسلام على أنه رسالة توحيد وإصلاح، وتحرير ونهضة وعدل ومساواة وعلم وقوة.
أخذ الكواكبي يسبح في الخيال ليسجل في كتابه محاضر اجتماعات القادة المسلمين، وكيف تتحرق أفئدتهم غيرة على الإسلام، وكم تمتلئ نفوسهم عزة بالإيمان، وهم يتباحثون قضايا الأمة فيصدرون في اجتماعهم عن قرارات حاسمة، وأعمال جادة، والعدو يترقب لقاءهم وهو يلتقط أنفاسه و يعمل لهم ألف حساب!
ربما كان الكواكبي غارقا في الحلم، وربما أفاق منه، لكنه بالتأكيد لم يكن يتخيل ماستؤول إليه الأحوال بعد مئة عام، حين يتحول الحلم إلى كابوس لم تفق منه الأمة بعد!
فها هي العراق تمزقها الصراعات، وها هي فلسطين يخنقها الاحتلال والحصار، وها هو جزء من السودان العربي المسلم عاش تحت راية الإسلام قرونا طويلة من الزمان ينفصل اليوم في صمت عن جسد الأمة وليس إلا العجز والسكون، وكأن الأمر لا يعني أحدا! والمثل العربي القديم لا يزال يصك الآذان "إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض"!
صحيح أن الأمل كبير في الشعوب الإسلامية أن تقترب من حلم الوحدة الإسلامية أكثر من أي وقت مضى، وقد باتت على وعي بما يحاك لها في الخفاء، من محاولات التقسيم والتمزيق والتغريب و العولمة وطمس الهوية وفرق كبير أن يعمل مبضع الجراح في جسد الأمة وهي نائمة مخدرة، وبين حال الأمة اليوم وقد دبت فيها الحياة فباتت تشعر وتصرخ وتتألم غير أنها لا تزال عاجزة عن الحراك!
وصدقت فينا فراسة من قال:(إن المسلمين إذا لم يجتمعوا صاروا مزقا وأشلاء، لا تقوى على العمل ولا تنفع نفسها، ولن يكونوا أكثر من أدوات تستخدم بيد أعدائهم، ولن تكون أرضهم وخيراتهم لهم بل لغيرهم، أما إن اجتمعوا فقد يصيرون قوة تنفع نفسها.
وتنقذ جزءا من العالم، وتصيح فيهم بلسان القرآن: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) سورة البقرة 208) كتاب الوحدة الإسلامية الشيخ محمد أبو زهرة، ص18.
فهل تظل الوحدة الإسلامية حلما يراود خيال المسلمين طويلا؟
وهل يليق بأمة عظيمة كأمة الإسلام لديها كل مقومات القوة والعزة أن تبقى ضعيفة أو تعيش ذليلة؟
المصدر: موقع لها أون لاين